لماذا غابت الجامعات العربية عن ثورة غزّة العالمية؟

لماذا غابت الجامعات العربية عن ثورة غزّة العالمية؟

19 مايو 2024

طلّاب وطالبات في مظاهرة لدعم غزّة في شارع الحبيب بورقيبة في تونس (29/4/2024/Getty)

+ الخط -

فيما تستمرّ وتتوسّع ثورة غزّة الطلابية، التي بدأت في أميركا ووصلت إلى أوروبا، لا نجد في الجامعات العربية، وحتّى الفلسطينية، حراكاً يُذكر. وهذا السكون الملحوظ مُؤشّر على شلل الحركات الجماهيرية العربية، وضعف الأحزاب والمؤسَّسات المدنية، وهو مُؤشّر خطير على حالة العجز عن تحرّك جمعي، ليس ضدّ حرب الإبادة الصهيونية فحسب، بل على المطالبة بالعدالة والحرّية عموماً. فالتراجع بعد انتكاسة الانتفاضات العربية، التي نهضت أواخر 2010، وبدأت بالضمور في 2015، كان له تأثير عميق في المجتمع العربي كلّه، فانتصار الثورات المُضادّة، وفشل الانتخابات في إحداث تغيير نحو الأفضل، وغياب قيادات وجبهات مُوحَّدةٍ تحمل رؤىً وطنية تقدّمية، أصاب كثيرين بالإحباط، وحتّى اليأس. أما الأنظمة، فالدرس الوحيد الذي تعلّمته هو ابتداع أساليب جديدة في كبح الحرّيات، من سَنّ قوانينَ تخنق حرّية التعبير والعمل السياسي، إلى إغلاق الساحات والميادين، حتّى لا تصبح مراكز تَجمّع ورموزاً لإرادة الشعب والتغيير.

ما تقدم كلّه أثّر، أيضاً، في حركة التضامن مع القضية الفلسطينية، وفي مناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني، باعتباره خطراً على فلسطين والدول العربية، مجتمعة وفرادى. وفي المحصّلة، أشاع تقييد الحرّيات والقهر أجواءَ الخوف والترهيب من اعتقال وتدخّل أجهزة الأمن، ومن فصلٍ من الجامعات، ومن تدمير مستقبل الطلبة، وأوصل الجامعات إلى هذه الدرجة من السكون المخيف. مع أهمّية غياب الحرّيات عاملاً رئيساً في تحليل عدم انضمام الطلبة في العالم العربي إلى الثورة الطلابية العالمية، لكنّه ليس العامل الوحيد، بل يجب أن نواجه حقيقةَ وتداعياتِ تدهور وتشويه الوعي والثقافة، الذي غيّب الجامعات العربية عن الحراك ضدّ حرب إبادة ليست بعيدةً عنّا، ونتابع أحداثها لحظة بلحظة على شاشات قنوات التلفزة والهواتف النقّالة.

معظم الأنظمة العربية مسؤولة عن تغييب ممنهج للقضية الفلسطينية في المدارس والجامعات، وبخاصّة، بعد سلسلة من اتفاقيات تطبيع رسمية مع الدولة الصهيونية. فهناك جهل أو نقص معرفي بجذور القضية، بما في ذلك فهم الحركة الصهيونية، وطبيعة المشروع الصهيوني وخطره على الأمن القومي العربي، يضاف إليه تسطيح معرفي بطبيعة الصراع وتداعياته على الاستقرار في المنطقة. الأخطر، ربّما، عملية الفصل الممنهجة، أيضاً، بين نضال الشعب الفلسطيني والتحرّر الوطني العربي، وقضايا الحرّيات والعدالة والحقوق الاجتماعية، بحجّة أنّ الانشغال بالقضية الفلسطينية يُعرقل تقدّم المجتمعات العربية، وهذا التيار، بالمناسبة، ليس في أوساط النخب الحاكمة، بل لدى بعض التيّارات الليبرالية "التنويرية". فتحتَ عنوان "الحداثة" يناصب هؤلاء العداء للقضية الفلسطينية، وهو في جزء منه تأثرٌ بتيّار ليبرالي غربي مُنافقٍ، وأحياناً عنصري، يُسوّغ السياسات الاستعمارية، وفي جزء مُهمّ منه، يُجسّد التأثيرات الفكرية والإقليمية العنصرية و"المالية" في تفكير أحزاب، وأشباه مثقّفين، وحتّى مُثقّفين.

بدأ هذا التيّار الليبرالي الانتقائي، وأحياناً الإقصائي، في العالم العربي، يتغلغل في هيئات التدريس الجامعية، ومراكز الأبحاث والإعلام، وساهم في تشويه الوعي عند أساتذة الجامعات والطلبة. وأكثر مقولات هذا التيّار أهمّية أنّه يقف في مواجهة تيار الإسلام السياسي، ويعتبرها أولوية في التغيير، بل ربط الشقّ الأسوأ في هذه التيارات القضية الفلسطينية بكراهية "تخلّف التيار الديني". وهنا تُقزّم القضية الفلسطينية إلى صراع ديني يجابهونه بـ"المحبّة" للجيش الذي يُنكّل بالفلسطينيين، وبقبول الاحتلال، وتفوّق إسرائيل.

حالة التشوّه في النظام السياسي العربي انعكست على حالة الجامعات وعلى حراك الطلّاب، الذين ليسوا في منأى عن حالة الإحباط العام من جدوى المظاهرات

هذ التيّار، وإنْ لا يبدو قوياً، غير أنّ تأثيره في الشباب أعمق مما يظهر في السطح، لأنّ بعض الحكومات تقبل هذا التيّار "الليبرالي"، وتستخدمه من خلال منظّمات غير حكومية، بعضها مموّل أجنبياً، أو "تمكين" الشباب داخل الجامعات وخارجها، لضمان الولاء ولمواجهة تيّار الإسلام السياسي. وهذا ما فتئت بعض الحكومات تمارسه لمنع حدوث انتفاضة عربية ضدّها، بعد تجربة "الربيع العربي"، ولذا، كان التخويف أو زرع وعي مشوّه ضدّ دعوات الإصلاح، خصوصاً أنّ كثيراً من المنظّمات شبه الحكومية، التي تضمّ بعض "الليبراليين"، تكون مُختَرَقةً أمنياً، وتمثّل توجّهات عنصرية ضدّ الفلسطينيين، تحت غطاء مواجهة الحركات الإسلامية. فقامت بعض الدول بتوظيف هذا التيّار عند بدء التحركات في الجامعات تضامناً مع غزّة، بحجّة الخوف من تأثير "انتصار حركة حماس" أو حتّى صمودها في تقوية الحركات الإسلامية، تتقدّمها جماعة الإخوان المسلمين.

اللافت، غياب حركة طلابية قوّية في لبنان، الذي حمل في الستينيات والسبعينيات شعلة الانتصار للثورة الفلسطينية، فبالإضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي، واليأس من حكومات تعتمد التقاسم الطائفي بين قيادات الطوائف، فإنّ ربط القضية الفلسطينية بمعاداة النظام السوري وإيران أصبح من مبررات النفور من تأييد القضية الفلسطينية. وترى ذلك بين فئات من المُعارَضة السورية من الطلبة ومن الشباب، أي إنّ من يناصب العداء لأنظمة تحمل شعار الممانعة والمقاومة انتقل من رفض لطهران إلى رفض للقضية الفلسطينية.

من دون وقوف النخب بحزم أمام أيّ هجمة أمنية، لا يحقّ لنا أن نطالب الطلبة بالتحرك ونحن صامتون

من الغريب ألا يتقدّم الطلبة الاحتجاجات، وبخاصّة ضدّ الجريمة المروّعة والمستمرّة في فلسطين، لكنّ حالة التشوّه في النظام السياسي العربي انعكست على حالة الجامعات وعلى حراك الطلّاب، الذين ليسوا في منأى، أيضاً، عن حالة الإحباط العام من جدوى المظاهرات في الضغط على الحكومات العربية، وجعلها تُغادر حالة الخذلان للفلسطينيين، إن لم يكن ممالأة أميركا وإسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني. فهناك طلبة مصريون اعتُقلوا لتأييدهم غزّة، ورفض جريمة الإبادة، وفي بعض دول الخليج العربي، غير مسموح إظهار التأييد للفلسطينيين أو حتّى رفع علم فلسطين. وفي الأردن، نجحت الحكومة والأمن، إلى حدّ ما، في فرض حالة خوف وأجندة شعارها "مصلحة الأردن أولاً"، جعلت من الحراك تأييداً للفلسطينيين خطراً على الأردن، إلى حدّ اتهامه بالانصياع لتحريض أو أوامر "حماس". وكاتبة هذه السطور شبه متأكّدةٍ لو أنّ بعض الطلبة العرب كانوا يدرسون في الجامعات الأميركية أو البريطانية، لكانوا قيادات في ثورة غزّة الطلابية، لكنّ قمع الفكر وحرّية التعبير في مدارسنا وجامعاتنا العربية، وحتّى في قاعات التدريس والصفوف، ينتج طلاباً خائفين على فرصهم في الشهادة الجامعية، ويخشون التضحية بمستقبلهم، خصوصاً، أنهم فقدوا الثقة بقدرة الشعوب على التغيير.

ما تقدّم ليست مسوّغات أو تبريرات لحالة الصمت في الجامعات العربية، بل إدانة للأنظمة، التي جعلت العقلية العُرفية الأمنية العربية تتحكم بالجامعات. والبديل، الآن، هو في تحرّك طلّابي جماعي، فلا يمكن فصل المئات والزجّ بالآلاف في المعتقلات، خصوصاً أنّ الدفاع عن فلسطين، في هذه المرحلة، هو دفاع عن الأردن وفلسطين وسورية ومصر والإمارات، وكلّ بلد عربي. لكن، على النُّخب، أيضاً، أن تتحرّك ولا تترك الشباب والطلبة فريسة العملية الأمنية والاعتقال، وهذا جزء كبير من المشكلة، فمن دون وقوف النخب بحزم أمام أيّ هجمة أمنية، لا يحقّ لنا أن نطالب الطلبة بالتحرك ونحن صامتون.

أما الأنظمة، فمحاولاتها لتكوين طلبة موالين وخانعين ستنقلب عليها. فأميركا نجحت سنواتٍ، بعد الاحتجاجات ضدّ حرب فيتنام، في كبح الحركات الطلابية، إلى أن انفجرت بوجهها رفضاً لحمايتها مشروعاً استيطانياً إحلالياً عنصرياً يهدف إلى إلغاء هُويّة الشعب الفلسطيني، حتّى لو تطلّبت إبادته.